تاريخ عائلة - بقلم طريف الخالدي
البحث والتنقيب في تاريخ العائلات امر شديد الصعوبة والتعقيد، وفي العالمين العربي والاسلامي على وجه الخصوص نجد ان التعلق بالنسب والاعتزاز به لا يزال
عميق الجذور بالرغم من التنديد بالانساب الذي نلمحه في القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة. ونرى في العديد من البيوتات العربية، من اقاصي المغرب وحتى اقاصي العراق ، ما يُسمى "شجرة العائلة" معلقة في مكان بارز يزعم اصحابها انها تدل بشكل قاطع الى انتسابهم الى جَدّ أعلى ، كثيرا ما يكون بطلاً من عصر ذهبي سحيق. لكن اين تكمن صعوبة البحث في هذا الموضوع؟
يبدو انه كلما ازداد تعلق عائلة ما بنسبها ازداد عزمها على اخراج هذا النسب بصورة متسلسلة ولو كلف الامر بعض الابتداع والتكلف، بل والتلفيق. و"شجرة العائلة" هي بالطبع الصورة الاكثر انتشاراً لعرض النسب، لكن لا يمكن لها ان تُعتمد كالبرهان الاكيد للنسب ما لم نجد لكل "غصن" من اغصان "الشجرة" ولكل "طائر" يقف على تلك الاغصان ما يثبت وجوده في كتب التاريخ او كتب الطبقات او الوثائق الرسمية على انواعها او غيرها من الدلائل التي لا يرقى اليها الشك. لذا فالشجرة بحد ذاتها ليست برهاناً. ويجدر بنا ان نطلق هذا التحذير قبل ان نستعرض في هذه النبذة ،خطوة إثر خطوة، تاريخ العائلة الخالدية.
يقول الخالديون ان نسبهم يرجع الى الصحابي والفاتح الاسلامي الكبير خالد بن الوليد. كان خالد من عليّة القوم في مكة وجاء إسلامه متأخراً فبقيت في شخصيته البعض من حمية الجاهلية وتوقها للحرية وروحها الثائرة لكن ما ان بدأت الفتوحات حتى لمع اسمه كقائد عسكري عبقري ثم دفن لاحقاً في حمص. العديد من المصادر قديمها وحديثها تشي بانه توفي ولا عقب له، لكن هل هذا الامر
ثابت ومؤكد؟ ليس الامر كذلك، إذ نجد في كتاب "طبقات الاعيان" لابن خلكان، وهو من اشهر كتب الطبقات، ترجمةً لشاعر حلبي مرموق اسمه ابو عبد الله محمد ابن نصر الخالدي المعروف بابن القيسراني والذي يذكر ابن خلكان نسبه متصلاً حتى خالد ابن الوليد. توفي ابن القيسراني سنة 548 للهجرة الموافق 1153 للميلاد مما يعني ان الانتساب لخالد بن الوليد كان معروفاً في القرن السادس للهجرة اي الثاني عشر الميلادي.
ما هي اقدم إشارة الى عائلة اسمها الخالدي في بيت المقدس؟ نجدها في مخطوط فقهي في المكتبة تحت الرقم ٩٦٣ من تأليف محمد ابن عبد الرحمن ابن عبد العزيز الخالدي ،وهناك عدة دلائل في المخطوط نفسه تشير الى ان المؤلف كان حيّاً في اواسط القرن الحادي عشر الميلادي وقبل سقوط المدينة بيد الصليبيين في العام ١٠٩٩ للميلاد. ومن المعلوم ان ذاك السقوط تسبب بهجرة واسعة فتشتت عوائل القدس في كل الارجاء. وهناك مأثور تناقلته العائلة عبر الاجيال ان آل الخالدي لجأوا الى قرية دير عثمان بالقرب من نابلس ثم عادوا الى القدس مع الفتح الصلاحي في الثاني من شهر اكتوبر، عام ١١٨٧. وحينما عادوا الى مدينتهم اصبح اسمهم الديري او الديري الخالدي غير ان هذا الامر ليس موثقاً في المصادرالتي بين يدينا.
اما الطور الثالث في تاريخ العائلة في عصر ما قبل الحداثة فهو الطور الموثق بشكل كامل ولنا ان نؤكد ان افراد ذاك الجيل هم بلا شك اجداد العائلة في يومنا هذا. تبدأ تلك السلسلة مع رجل اسمه شمس الدين محمد ابن عبد الله العبسي الديري المقدسي الذي ولد في القدس حوالي العام ١٣٤٣ م. وتوفي فيها في الثاني من نوفمبر من العام١٤٢٤. كان ابوه تاجراً من الدير فشجعه على طلب العلم في القدس ثم في دمشق والقاهرة فاصبح مفتياً للاحناف في القدس وعالماً مرموقاً. ثم استقدمه الى القاهرة السلطان المملوكي المؤيد شيخ ليسند اليه وظيفة قاضي قضاة الاحناف في السلطنة [من المعلوم ان المماليك رسموا اربعة قضاة يشغل كل منهم منصب قاضي قضاة احد المذاهب السنية الاربعة]. وتذكر المصادر التاريخية ان شمس الدين هذا كان مشهورا بالعفة ونظافة اليد وسرعان ما ادى ذلك الى حنق الامراء عليه فوجد من المناسب ان يستقيل من منصب قاضي القضاة بعد ثلاثة سنوات (١٤١٦—١٤١٩) لكنه تولى مشيخة الخانقاه المؤيدية وتوفي في القدس اثناء زيارةٍ للمدينة. وكان من المشهود لهم بالعلم الغزير والاستقامة، ووصفه البعض بانه كان فيه شيء من الغرور والاعتداد بالنفس.
من بين ابناءه الخمسة نبغ منهم اثنان وصلا الى مرتبة والدهم وشهرته هما سعد الدين سعد الذي ولد في القدس عام ١٣٦٧ وتوفي في القاهرة عام ١٤٦٣، اي انه بلغ من الكبر عتياً بالنسبة لذلك العصر. خلف سعد الدين والده في منصب قاضي القضاة ثم في مشيخة المؤيدية. وتقول المصادر انه لم يقبل منصب قاضي القضاة والذي استمر فيه من العام ١٤٣٨ وحتى العام ١٤٦٢ إلا بعد ان اشترط ان لا يتدخل اي امير او ذي نفوذ في عمله. وتشيد المصادر بذكائه الحاد وعلمه الغزير.
اما الابن الثاني فهو برهان الدين ابراهيم الذي ولد في القدس عام ١٤٠٧ وتوفي في القاهرة عام ١٤٧١ . كان والده قد اصطحبه معه الى القاهرة حين اصبح قاضيا للقضاة ، ودرس برهان الدين في القاهرة ثم تقلب في المناصب الدينية المتعددة في الادارة المملوكية وصولاً الى منصب قاضي القضاة ومشيخة المؤيدية سالكاً درب ابيه واخيه من قبل. وتشيد المصادر بعلمه ونزاهته.
هذا الثلاثي المؤلف من ابن وابنين هو الاول في سلسلة طويلة من احفادهم من العلماء والقضاة في القدس امتدت بلا انقطاع ،وهي سلسلة موثّقة في كتب الطبقات وفي سجلات المحاكم الشرعية حتى يومنا الحاضر. لا نملك دليلاً يشي بانتساب هذا الثلاثي الى الخالديين في القرن الحادي عشر غير ان سلسلة النسب بين الثلاثي واحفادهم من القضاة والعلماء والمفتيين مثبّته بما لا يرقى اليه شك. العديد من هؤلاء الاحفاد تنقلوا في المناصب الدينية بين القدس والقاهرة، وحين زال حكم المماليك وابتدأ حكم آل عثمان استمر هؤلاء الديريين يملأون المناصب ذاتها في القدس كما وفي سائر ارجاء السلطنة العثمانية.
ويبدو في غالب الظن ان الديريين اصبحوا يُعرفون باسم الديري الخالدي في اواسط القرن السابع عشر للميلاد حين عمد العديد من اعيان المدن العربية إبان الحكم العثماني الى الانتساب الى اجداد من ذوي الحسب الرفيع او المجد الساطع في فجر الاسلام. لا نعلم بالضبط ما الذي حملهم على ذلك لكن من المرجح ان يكون لهذا الامر صلة بيقظة عربية عند هؤلاء الاعيان جديرة بالمزيد من البحث والتدقيق. وعلى كل حال فان هذا الشعور بالانتماء للعروبة لم يخبُ يوماً ،الامر الذي يفسر رواج القومية العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومنذ القرن السادس عشر وحتى الثامن عشر احتل افراد العائلة منصب مشيخة المدرسة الفارسية في القدس وهو منصبٌ مرموق كان يأتيه فرمان التعيين من السلطان العثماني مباشرةً. كما يبدو ان افراد العائلة استأثروا بمنصبي كاتب المحكمة الشرعية في القدس و نائب قاضي القدس حتى نهاية القرن التاسع عشر وهما ايضا من المناصب الشرعية الهامة. وظلت العائلة عثمانية الولاء حتى نهاية الحكم العثماني عام ١٩١٧.
وفي القرنين الثامن والتاسع عشر سطع نجم العديد من ابناء وبنات العائلة وبشكل لافت، ويبدو ان عديدهم اضحى بالمئات. ومن بين هؤلاء تجدر الاشارة الى سيدتين من العائلة لعبتا دوراً ثقافياً بارزاً، الاولى في جمع نواة المخطوطات والثانية في نقل المجموعة تلك الى مكانها الحالي في تربة بركة خان والذي اصبح منذ العام ١٩٠٠ مقر المكتبة اليوم. فالسيدة الاولى واسمها طرفنده خانم اشتركت مع زوجها محمد صنع الله الخالدي في وقف حوالي ٢٦٠ مخطوطة وذلك استناداً الى وثيقة وقفية مؤرخة فيما يوافق ٤ فبراير، ١٧٨٧ ، اما السيدة الاخرى خديجة خانم فقد رصدت بعد التاريخ الاول بحوالي مئة عام مبلغاً كبيراً من المال لتجهيز التربة المذكورة ونقل المخطوطات اليها، وهو ما انجزه ابنها الحاج راغب في العام ١٩٠٠.
لا نجد في سِيَر العلماء في العادة ما قد نسميه الكثير من الاحداث "المثيرة". إلا انني حرصتُ عند انتقاء السير الاربعة الواردة ادناه لقضاة وفقهاء وعلماء ان تكون حياتهم قد تركت بصماتها على الحياة العامة في عصرهم.
السيرة الاولى هي سيرة القاضي موسى شفيق الخالدي المتوفي عام ١٨٣١ وهو حفيد صنع الله المذكور اعلاه. تدرج موسى شفيق في مناصب السلطنة القضائية فاصبح قاضياً للمدينة المنورة وهو منصب رفيع لما لمدينة النبي من قداسة عند المسلمين. ثم اضحى لاحقاً قاضي عسكر الاناضول وهو ثاني اعلى المناصب القضائية في السلطنة ويحق له ان يحضر مجلس السلطان. وفي ١٧ يوليو من العام ١٧٩٨ توجه برسالة مفتوحة الى اعيان فلسطين يعلمهم فيها عن سقوط الاسكندرية في ايدي نابليون ويحذرهم ان الهدف الحقيقي لهؤلاء "الملاعين الافرنج" هو الاستيلاء على القدس. ويبدو ان موسى كان يرى ان حملة نابليون ما هي إلا حملة صليبية جديدة. وبعد ذاك التاريخ بمئة عام حذر افراد من العائلة من اخطار الصهيونية على فلسطين وشعبها كما سيرد ادناه.
اما تدخله الاخر في الامور العامة فقد جاء بعد تحذيره اعلاه بحوالي ٢٨عاماً حين اصدر فتوى سمحت للسلطان محمود الثاني بقطع دابر عساكر الانكشارية عام ١٨٢٦ الامر الذي مهّد لتكوين جيش عثماني عصري.
السيرة الثانية هي سيرة الحاج محمد علي، باشكاتب ونائب المحكمة الشرعية في القدس لمدة ٦١ عاماً، وهي وظائف قضائية هامة. ومحمد علي هو ابن اخ موسى المذكور اعلاه، وقد خلف والده في مناصبه الشرعية تلك. وخلال الحرب الروسية العثمانية في العامين ١٨٢٨ و١٨٢٩ وصل الى القدس فرمان همايوني من اسطنبول يأمر بقتل بطريرك الطائفة الارثوذ كسية مع كهنته. وكانت علاقة العائلة مع المسيحيين ودية على الدوام ، لذا، ومعرضا حياته للحتف، عمد محمد علي الى إخفاء البطريرك في كهف قرب باب العمود في القدس. وحين وضعت تلك الحرب اوزارها وانتهى الخطر ، اثنى الجميع على ما فعله محمد علي. وكرّمته بطريركية القدس بان علقت له صورة زيتية ما زالت الى اليوم معلقة في مكتب البطريرك بين صور البطاركة. توفي محمد علي في العام ١٨٦٤.
السيرة الثالثة هي سيرة يوسف ضيا باشا الخالدي المتوفي عام ١٩٠٦. هو ابن محمد علي المذكور آنفاً. كان على الارجح اول فرد من افراد العائلة تلقى تعليما اسلاميا تقليديا تبعه تعليم اوروبي علماني. ثم التحق بسلك الدولة الاداري وتدرج في المناصب ليصبح حاكما لكردستان الاناضول في منطقة بتليس وغيرها من المناطق وحيث وضع قاموساً كردياً عربياً هو الاول من نوعه بالمطلق. ثم عاد الى القدس ليصبح اول رئيس لبلدية القدس وذلك من العام ١٨٦٧ وحتى العام ١٨٧٣. ثم اصبح نائباً عن القدس في اول برلمان عثماني في العامين ١٨٧٦ و١٨٧٨، وكان من انصار المصلح الكبير مدحت باشا. كان يوسف ينادي بالاصلاح وبالحكم الدستوري وكان صديقاً للمصلح الاسلامي الذائع الصيت جمال الدين الافغاني. ثم سافر الى النمسا والتحق بجامعة فيينا استاذاً للعربية حيث حقق ديوان الشاعر الجاهلي الكبير لبيد. اما مراسلاته مع الزعيم الصهيوني ثيودور هرتزل وتحذيره الشديد له من متابعة الاستيطان في فلسطين فهذه كلها امور يعرفها عامة مؤرخي فلسطين في العصر الحديث.
السيرة الرابعة في هذه السلسلة هي سيرة روحي الخالدي (١٨٦٤-١٩١٣) وهو ابن اخ يوسف ضيا الذي كان مثاله الاعلى. تلقى كعمه يوسف علومه الدينية في القدس ثم تابع دراساته العلمانية في طرابلس الشام وبيروت ولاحقاً في المكتب السلطاني في اسطنبول وكان بمثابة كليّة عليا
ذات مكانة علمية مرموقة تتيح لخرّيجيها الالتحاق بوظائف هامة في الدولة. تخرج روحي منها بتفوق وتلقى على الفور عروضاً عدة لشغل مناصب قانونية في فلسطين لكن طموحه الشديد دفعه الى عصيان الوالدين وخصوصا امه، وهو قرة عينها، والى السفر الى فرنسا لاكمال دراسته. وصل روحي الى باريس عام ١٨٩٤ وهو في فقر مدقع والتحق بكلية العلوم السياسية والتي اصبحت تعرف فيما بعد باسمPo Sciences حيث درس تاريخ اوروبا ومادة العلاقات الدولية. ونشط روحي في اوساط المستشرقين وصاحب العديد منهم غير انه ورغم اعجابه بابحاثهم اللغوية وغيرها كان من اوائل العلماء العرب الذين حذروا من اغراضهم الاستعمارية الخفية. وفي العام ١٨٩٨ تم تعيينه قنصلاً عاماً للامبراطورية العثمانية في مدينة بوردو الفرنسية حيث اصبح لاحقاً عميداً للقناصل الاجانب في المدينة. وفي العام ١٩٠٨، وفي اعقاب الانقلاب العثماني، غادر بوردو عائداً الى القدس حيث تم انتخابه نائباً عن المدينة في مجلس المبعوثان (البرلمان) في اسطنبول وكان يوم وفاته عام ١٩١٣ نائباً لرئيس ذاك المجلس.
كان روحي غزير الانتاج فكتب في مواضيع شتى كالادب المقارن، والعلاقات الدولية، والتاريخ المعاصر، والكيمياء عند العرب، وعلم الالسنة، وجغرافيا واثنوغرافيا العالم الاسلامي، ومؤلفاته جميعها رائدة في موادّها. وكان يوم وفاته يضع اللمسات الاخيرة على كتابه بعنوان "الصهيونية" ،وهو من اوائل الدراسات حول العقيدة الصهيونية وتاريخها ، واول دراسةٍ عربية معمقة للانتشار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وسوف تصدر اعماله الكاملة إبان العام ٢٠٢١، كي يحتل روحي مكانه كاحد كبار مفكري النهضة في القرن التاسع عشر.
لم تتطرق هذه النبذة التاريخية الى تاريخ العائلة نساءها ورجالها في القرن العشرين، فالامر متروك لكاتب آخر.
*************