الرئيسية » مقالات مكتوبة عن المكتبة »
 

المكتبة الخالدية في القدس: سيرة مدينة

في سياق الاهتمام بتاريخ وصور المدن، عادة ما ركز عدد من المهتمين في هذا المجال على قراءة بعض الأماكن والتطورات التي عرفتها، بوصفها تعكس التغير الأوسع الذي عرفته المدينة وما حولها عبر عدة عقود، ولذلك غدا المكان وسيرته ليس مجرد مجال مادي، بل يحمل في كل زاوية منه قصة وسيرة المجتمع والاقتصاد والحرب، وكل ما يدور حوله من أحداث. وربما هذه النتيجة، ستدفع بعدد من الروائيين والمؤرخين في السنوات الأخيرة إلى التركيز على كتابة روايات وكتب تتعلق مثلاً بتاريخ أحد الفنادق، أو العمارات «عمارة يعقوبيان» وما عرفته من تطورات وتغيرات عبر الزمن، أو دراسة بعض المطاعم، وما شهدته من تقلبات أو انتقال بعض فروعها لأماكن أخرى كدليل على تغير اقتصاديات المدينة العربية في سنوات ما بعد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

وربما من الدراسات الطريفة والمهمة أيضا في هذا الشأن، الكتاب الذي ألفه المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي «المكتبة الخالدية في القدس» وتناول فيه تاريخ هذا المكان، منذ نشوئه، مرورا بما عرفته مدينة القدس، التي بنيت فيها هذه المكتبة، من تغيرات ديموغرافية وأشكال متعددة من الاحتلال الاستعماري، ما نجمت عنه آثار عديدة في هذه المكتبة ومخطوطاتها، قبل أن تتحول مع مرور الزمن إلى واحدة من أهم الأماكن في مدينة القدس، التي تحاول حفظ ذاكرتها ورائحة أهلها وقصصهم.

وفي كتاب الخالدي، الذي أعيدت طباعته للمرة الثانية مؤخراً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، سنكتشف مع كل تحول في المكتبة، تاريخا اجتماعيا وثقافيا موازيا، نتعرف من خلاله على أوضاع المدينة وأهلها والأفكار التي كانوا يتداولونها.

تقع المكتبة في قلب القدس القديمة على مسافة مئة متر من الحرم الشريف وتطل على حي البراق وحي المغاربة السابق، وقد عمل على تأسيسها أفراد من عائلة الخالدي الفلسطينية، التي، كما تذكر بعض الروايات، تنتسب في الأساس، إلى الصحابي خالد بن الوليد، ومما هو متواتر عن أخبار العائلة أن أفرادها هجروا القدس قبيل سقوطها على أيدي الإفرنج، ولجأوا إلى دير عثمان بالقرب من قرية مردة في نابلس، ليعودوا إليها بعيد فتحها على يد صلاح الدين بكنية الديري ثم الخالدي.

في العقود الأولى من الوجود العثماني في المدينة، برز دور العائلة أكثر في الحياة الدينية، من خلال تعاقب العلماء من الخالديين على قضاء الحنفية في القدس، فكان شهاب الدين أحمد وابنه محمود، وبدءاً من القرن السابع عشر الميلادي تولى الكثير من فقهاء العائلة منصب رئاسة الكتابة في المحكمة الشرعية في القدس، فضلا عن نيابة القضاء في حال غياب القاضي التركي المعين من إسطنبول، وقد بقي هذا المنصب شبه محصور بالعائلة طوال القرون الثلاثة الأخيرة من العهد العثماني، إلى أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، كما بقي علماء العائلة منحازين للطرف العثماني خلال الهجوم الفرنسي على مصر، وانضموا مبكراً إلى حركة الإصلاح العثمانية، فكان منهم مصطفى بن موسى (توفي 1845) الذي تولى القضاء في إسطنبول من المقربين إلى السلطان محمود الثاني، وفي نهاية القرن التاسع عشر، ومع افتتاح مدارس أجنبية وزيادة الإرساليات التعليمية والتبشيرية الأوروبية إلى المنطقة، أخذ بعض أفراد العائلة كغيرهم من أبناء القدس يتأثرون بالأجواء الجديدة، ما دفعهم إلى ترك المدارس الدينية والفقهية، والانتقال إلى التعلم والخدمة في المجالات المدنية الجديدة، وهكذا أرسل يوسف ضياء الدين بن محمد علي (توفي 1906) إلى الكلية البروتستانتية في مالطة، وعين في ما بعد أول رئيس لبلدية القدس 1867 1873 وبعدها تولى أخوه ياسين بن محمد علي رئاسة البلدية، كما عين عضوا في المجلس العمومي لبيروت، وممن برز من العائلة في هذه الفترة أيضا روحي بن ياسين (1864ـ1913) الذي تلقى دروسه الأولى في المسجد الأقصى، قبل أن يلتقي بحزب الاتحاد والترقي ويصبح من المقربين لجمال الدين الأفغاني، وعين مدرسا في جمعية نشر اللغات الأجنبية في باريس، وقد نشر أبحاثا قيمة حول الأدب والتطورات السياسية في تلك الفترة، كما كتب مخطوطا عن الصهيونية، لم يكتمل، تحدث فيه عن قيام الحركة في القرن العشرين، وعلاقة اليهود بفلسطين وبالعرب على مرّ العصور، ثم ختم دراسته بفصل قائم على البحث الميداني عن جميع المستعمرات التي جرى انشاؤها، وفي ظل هذه الأسرة، وما عرفته من تقلبات، ستنشأ مكتبة الخالدي، التي كان لأفرادها الدور الأكبر في تكوينها والإشراف عليها.

ستبدأ أولى محاولات أو بذور هذه المكتبة مع الشيخ أبو الرضا طه بن صالح في 1656 الذي أسس وقفا وضع فيه كل مكتبته لخدمة العلماء، كما يقول، وقد عدد في هذا الوقف عناوين مكتبته وبلغت خمسين مجلدا، ثم جاء بعده محمد صنع الله الكبير (توفي 1726) ليؤسس لوقفية أخرى حررت في عام 1720، وجمع فيها نحو 560 كتابا، والتي ضمت في الأغلب كتبا حول الفقه والأصول والفرائض، وقد شرط صنع الله على الناظر على وقفه «ألا يعير لمتجوه (أي لذي جاه) ولا لذي شوكة.. إلا لمن احتاجه من العلماء لمراجعة مسألة من كتاب، فيظهر له الكتاب ويطالع المسألة بحضور الناظر، وإذا دعت الضرورة لأحد من العلماء أن يستعير كتابا فيأخذ منه الناظر رهنا ولا تزداد العارية (أي الإعارة) على شهر» ومما يلاحظ هنا أنّ توريث هذا الحجم من الكتب لم يكن بالأمر السهل، خاصة أن المطابع في تلك الفترة لم يكن لها دور بعد، وهو ما جعل من الحصول على الكتب شيئا مكلفاً ، ولذلك فإن وجود الكتب في البيوت العثمانية، لم يكن متوفرا في الأغلب إلا لدى العائلات الميسورة والعلمية، وفي حال توفرت كان غالبا ما يورد في تركة المتوفي ما امتلكه من كتب ليجري تقاسمها بين الورثة كشيء مادي ومعنوي، وقد جاء ابن صاحب هذه الوقفية (محمد بن صنع الله) المتوفى سنة 1790 ليسير في الاتجاه ذاته من خلال وقف كتبه البالغ عددها 260 كتاباً، ومنذ ذلك اليوم والأولاد والأحفاد يتوارثون مكتبة جدهم إلى أن جاء روحي بن ياسين ليقرر جمعها ووضعها في مكان واحد بين عامي 1885 ـ 1886، لكنه لن يتمكن من إكمال هذه الفكرة ليأتي بعده الحاج راغب بن محمد علي الخالدي، ليقرر بناء المكتبة في تربة الأمير حسام الدين بركة خان وأولاده من أمراء المصريين، ولأنّ بناءها تطلب تكاليف عالية، فقد أوصت خانم بنت السيد موسى أفندي الخالدي قبل وفاتها من مالها بمبلغ لعمار تلك الخرابة وضمها إلى التربة وجعلها مكتبة، ونلاحظ هنا أن ما فعلته السيدة خانم هو جزء من تقاليد واسعة عرفتها مدينة القدس، على صعيد أوقاف النساء ودورهن في بناء المجال العام.

لم تتعرض المكتبة لإصابات تذكر أثناء القتال الذي دار في القدس عام 1948، لكنها طبعا تأثرت بذيول ما حدث، فكثير من أبناء العائلة غادروا القدس باتجاه دول عديدة، وهذا ما أفقدها موضوع تعزيزها بكتب جديدة.

بعد بناء المكتبة أخذ الحاج راغب يجمع فيها الكتب والمخطوطات، ومما يذكره عن هذه اللحظة «أنّ العرب لما دخلت عليهم الحضارة والمدنية أسسوا المكتبات والمدارس وتبعهم الإفرنج واقتفوا أثرهم.. وما زالوا (أي الإفرنج) تاركين التقاليد والأفكار المبنية على الظن والتخمين نابذينها ظهريا، وأكثروا اعتمادهم على اليقينيات والمجربات.. فنتج عن ذلك ما هم عليه من الثروة واليسار والطمع بما لدى غيرهم من الأراضي المخفية والمناجم المعدنية» ومن خلال هذه الرؤية، يمكن أن نسجل أيضاً أن مفهوم المكتبة قد تغير، ففي السابق كان هناك البعد الوقفي (الديني ) للمكتبة، وفي الوقت ذاته البعد المعرفي (دعم العلماء) أما مع تأسيسها بالشكل الجديد، فكان هناك دور وظيفي جديد يظهر على السطح، ويتعلق بدور المكتبات في الإصلاح الإسلامي، وهنا يبدو الجانب الدنيوي أكثر ظهورا من الجانب الديني، وهذا ما يعد أمراً طبيعياً في تلك الفترة، التي كانت فيها فكرة الأوقاف تتراجع لصالح أفكار مؤسساتية أخرى، وقد افتتحت المدرسة رسميا في عام 1900 وجرى الاتفاق بين العائلة على أنه متى توفي أحد افرادها، تنقل كتبه إلى المكتبة، كما خصص للناظر عليها مبلغا من نصف ريع حمام العين في القدس.

علماء ومستشرقون في المكتبة

بعد الافتتاح، ستستقبل المكتبة أسماء كبيرة في العالم الإسلامي والغربي، وإلى يومنا هذا، وأول هذه الأسماء اسم الشيخ طاهر الجزائري، الذي جاء إلى القدس منفيا من دمشق، ولذلك عندما وصل طلب منه الشيخ راغب المساعدة في تصنيف موجودات المكتبة، فاقترح عليه الجزائري دعوة أبو الخير الحبّال للقيام بهذه المهمة، وهذا ما حدث فعلاً، فبعد قدومه بفترة قام الأخير بطبع فهرس المكتبة في القدس بعنوان «برنامج المكتبة الخالدية العمومية» ومما يذكره في مقدمة الفهرس أنّ مجموع عدد الكتب قد بلغ آنذاك قرابة (1156) كتابا، منها 685 مخطوطا والباقي مطبوع. وبعد دخول البريطانيين للمدينة، ظل وضع المكتبة مستقرا، وأخذ صيتها ينتشر في العالم، ليزورها عدد من المستشرقين خلال هذه الفترة من أمثال، لويس ماسينيون وهاملتون جب، لكن مؤلف سيرة المكتبة (وليد الخالدي) يرى، خلافاً لمن يعتقد أن فترة الوجود البريطاني ساهمت في تضخم عناوين المكتبة من 4 آلاف عنوان تقريبا إلى 12 ألف عنوان، إن حجم قاعة المكتبة وسعة خزائنها لم تكن تسمح بهذا الشيء، وإنّ عدد كتبها قد بقي خلال أربعة عقود قرابة 6 آلاف كتاب.

المكتبة ونكبات القدس

لم تتعرض المكتبة لإصابات تذكر أثناء القتال الذي دار في القدس عام 1948، لكنها طبعا تأثرت بذيول ما حدث، فكثير من أبناء العائلة غادروا القدس باتجاه دول عديدة، وهذا ما أفقدها موضوع تعزيزها بكتب جديدة، وبعد عام 1967 صدر قرار بمصادرة مبنى المكتبة، لكنهم سيتمكنون عبر الوثائق من إيقاف قرار المصادرة، ليبدأوا بعدها على الفور، في ظل الخوف من سياسات المصادرة الإسرائيلية، العمل على جرد وتدوين كل ما تحتويه المكتبة من مخطوطات ومطبوعات، وقد انتهى هذا الجرد سنة 1968، وتبين يومها أنّ موجودات المكتبة مؤلفة من 1293 مخطوطا و4704 كتب مطبوعة (بالعربية واللغات الأجنبية) وفي الثمانينيات كانت المكتبة بحاجة إلى عمليات ترميم وتوسيع، وهنا ساهمت بعض الأسماء في هذا الشأن من بينهم فاطمة بنت الحاج راغب، ورجل الأعمال الفلسطيني حسيب صباغ، والأمير حسن بن طلال وغيرهم، مع ذلك ظلت المكتبة تتعرض لمضايقات من قبل اليهود، بالإضافة إلى تأجيل البلدية لطلب الموافقة على عمليات الترميم، ويبدو أن الخوف على مستقبل المكتبة، سيزيد أبناء العائلة إصرارا على المضي قدما في موضوع ترميم المخطوطات وصيانتها، فهي لم تعد مجرد مخطوطات قديمة، بل تحمل أيضا رائحة وذاكرة وهوية مدينة القدس، وهنا سيجري بالتعاون مع مؤسسات أوروبية وأمريكية تكليف المستشرق الأمريكي لورنس كونراد لدراسة مشروع الفهرس، ومع توني بيش الخبير البريطاني ترميم المخطوطات، وقد تمكن كونراد خلال زيارته للمكتبة من تكوين فكرة إجمالية عن عدد المخطوطات، ثم أنه أثناء التمهيد لأعمال الترميم اكتشف سنة 1987 تحت السقف القرميدي للمكتبة مجموعة ضخمة من الأوراق (10 آلاف ورقة) فقام بتصنيفها ليأتي لاحقا في صيف سنة 1991 أحد أبناء العائلة (المؤرخ رشيد الخالدي) الحاصل على إحدى زمالات فولبرايت الأمريكية، ليقيم في شقة للزائرين في ملحق تابع للمكتبة، قبل أن ينكب على دراسة موجوداتها، وليصدر لاحقا كتابين الأول حول «الهوية الوطنية الفلسطينية» والثاني بعنوان «مئة عام من الحرب في فلسطين» حاول من خلالهما توظيف الأوراق العائلية التي عثر عليها في المكتبة وذاكرتها ورائحة مخطوطاتها في إعادة كتابة تاريخ فلسطين على مدى المئة سنة الماضية.

كتابة: محمد تركي الربيعو

المصدر: الأمة برس